المغرب: الاحتلال العسكري والمقاومة المسلحة


قامت القوات الفرنسية والإسبانية باحتلال أجزاء من التراب المغربي منذ القرن التاسع عشر. وبعد توقيع الحماية، شرعت السلطات الإستعمارية في الإستيلاء الرسمي على ما تبقى من المغرب؛ مستعملة في ذلك مختلف الوسائل. وتصدت لهذا الغزو العسكري مقاومة مسلحة، شملت مختلف مناطق البلاد وصمدت طيلة ربع قرن. وقد تنوعت أشكال تنظيمها وطرقها في مواجهة المستعمر، وشكل حلقة أولى من حلقات المقاومة المغربية التي استمرت طيلة عهد الحماية.

الإحتلال العسكري الفرنسي والإسباني للمغرب

كانت الدول الاستعمارية الأوربية قد مدت نفوذها الإقتصادي والسياسي والعسكري على عدة مناطق من البلاد المغربية، ودخلت في منافسات فيما بينها، انتهت بإطلاق اليد لكل من فرنسا واسبانيا في المملكة الشريفة.

تم التوسع العسكري الفرنسي والإسباني في عدة أطراف من التراب المغربي قبل توقيع الحماية، وواجهته مقاومة أولية

فقد بدأ التسرب الفرنسي داخل المناطق الصحراوية إنطلاقا من نهري السنغال والنيجر، ومن الأطراف الجنوبية الغربية للجزائر المستعمرة. وكان هذا يعني بداية التطويق الإستعماري للمناطق الصحراوية، التي تقيم بها زاوية الشيخ ماء العينين (1910-1830م). فاستنهض الشيخ سكان الصحراء لمقاومة الغزو الفرنسي وجمع صفوف القبائل، واستقر ب «سمارة» وبعدها بتزنيت بسوس مبتعدا عن مكان المناوشات الإستعمارية.

وفي سنة 1908، قام الشيخ بـ «الجهاد» ضد الأجنبي في منطقة أدرار ونواحيها، حيث جنّد عدة غزوات أهمها دامان وأبو ضرس وأكجوجت وأبو الرجميعات. وبذلك عمل على تأخير الاحتلال الفرنسي لأطراف الصحراء مدة من الزمن إلى أن توفي سنة 1910م وتولى ابنه أحمد الهيبة منذئذ أمر الزاوية ومقاومة الغزو الأجنبي.

وفي المغرب الشرقي، وابتداء من ماي 1907، توغلت القوات الفرنسية داخل التراب المغربي، فاحتلت مدينة وجدة ثم بني يزناسن وهضبة كير العليا، حتى الضفة اليمنى لنهر ملوية. ولم تضطر للتوقف إلا بفعل المقاومة العنيفة التي واجهتها بها قبائل المنطقة.

وفي نفس السنة (1907) بدأت شركة فرنسية في بناء سكة حديدية بميناء الدار البيضاء تمهيدا لتجهيزه، من أجل ربط المغرب، أكثر من ذي قبل، بالسوق الرأسمالية. فثار سكان المدينة والقبائل المجاورة لها، وخربوا السكة الحديدية وعطلوا القطار عن العمل. وقتل خمسة فرنسيين وثلاثة إيطاليين وإسباني. فاستغلت فرنسا هذا الحادث، وتعاونت مع إسبانيا، فأنزلتا بساحل الدار البيضاء، قوات تتألف من 3.000 جندي فرنسي و 500 جندي إسباني. ثم احتلت تلك الجيوش المدينة وتوغلت في منطقة الشاوية وجزء من سهل دكالة.

فتكتلت قبائل المغرب الأطلنتي والأوسط لمواجهة الهجوم الإستعماري المشترك؛ مما اضطر السلطات الفرنسية إلى رفع عدد جنودها إلى 15.000 جندي، وجلب معدات حربية متطورة، من أجل الإستمرار في التوسع.

وعلى الشاطئ الريفي، وفي يونيو 1909، غزت القوات الإسبانية (50.000 جندي) الريف الشرقي الواقع بين مدينتي مليلية والحسيمة للسيطرة على مناجمه الغنية. فواجهتها قبائل کليعة، المقيمة حول مدينة مليلية. وتزعم مقاومتها «محمد أمزيان» الذي جمع جيشا من الفلاحين، وتعاون مع القبائل المجاورة لرد الهجمات الإسبانية، إلى أن سقط قتيلا في ماي 1912.

ومنذ يونيو 1911، كانت قوات إسبانية أخرى قد هاجمت الشاطئ الغربي من جبالة، فاحتلت الساحل الممتد بين أصيلا فالعرائش والقصر الكبير. وفرضت على السكان دفع الضرائب للإسبان عوض المخزن.

وفي فاس وسايس، ثار الجيش المخزني المقيم بمدينة فاس ضد دخول القوات الفرنسية المدينة سنة 1911. والتحق كثير من الجنود الثائرين بقبائل سايس والأطلس المتوسط المحاصرة للمدينة والمتأهبة للمقاومة. وبعد فترة من التنظيم، هاجم المقاومون المتكتلون مدينة فاس يومي 25 و 26 ماي 1912. ومع كون الحصار كان مشددا على المدينة المحتلة وأسوارها؛ فإن قوات القبائل قد تمكنت، بعد تضحيات جسيمة، من التسرب إليها ما بين 27 و 30 ماي 1912. وبرز الحجامي كقائد لهذه المقاومة.

كما هاجمت قبائل آیت سغروشن الحامية الفرنسية المقيمة بصفرو. فجندت القوات الفرنسية أعداد كبيرة من المجندين وأسلحة متطورة لتوقيف المقاومة. واعترف ليوطي قائد القوات الفرنسية بمدى ما بلغه التنظيم والانضباط والصمود لدى المقاومين في سايس قائلا :

« … لقد كونت القبائل جيشا يكاد أن يكون منظما، له راية واحدة وروح موحدة، وعناصره المختلطة تطيع القيادة طاعة تلقائية، وله انتظام تلقائي أيضا. وكان هذا الجيش يواجه الموت بمثل أعلى موحد»

مترجم عن كتاب : «ليوطي الإفريقي : نصوص ومراسلات المارشال ليوطي»

استعملت سلطات الحماية وسائل متنوعه وجندت عدة جيوش من أجل إخضاع البلاد لحكمها

وفق الاتفاقيات الإستعمارية، تم تقسيم المغرب إلى ثلاث مناطق للنفوذ هي : المنطقة الدولية بطنجة وضواحيها والمنطقتان الخاضعتان للحماية الإسبانية في الشمال والجنوب، ثم المنطقة التابعة للحماية الفرنسية في الوسط.


توقيع معاهدة الحماية 1912 من طرف السلطان المولى عبد الحفيظ

وأعلنت سلطات الحماية الفرنسية منذ توقيع معاهدة 30 مارس 1912 (معاهدة الحماية) بأن عمليات الغزو المسماة ب «التهدئة» تقام باسم السلطان ومن أجل استرجاع سلطته على مختلف مناطق البلاد؛ بينما كان هذا وسيلة لإضفاء طابع الشرعية على الإحتلال ولتلافي المواجهات المسلحة مع السكان.

وهاجمت البلاد المغربية قوتان استعماریتان أخذتا في اكتساحها، وكانتا تعتقدان بأن عمليات الغزو ستمر بسرعة. إلا أن المقاومة العنيفة التي واجهت الاحتلال العسكري، جعلته يمر بمراحل طويلة، ويستدعي استعدادات كبيرة من طرف سلطات الحماية.

فقد ارتفعت أعداد القوات المكلفة بغزو المغرب من 50.000 جندي سنة 1912 إلى 63,000 سنة 1914، بينما انتقلت حشودها سنة 1925 لمواجهة المقاومة الريفية إلى 325.000 من الجنود النظاميين و 400.000 من الاضافيين يقودهم 60 جنرالا ومارشال.

وتوفرت قوات المشاة والمدفعية على أحدث الأسلحة الموجودة وقتئذ، والتي استعملت أو اخترعت أثناء الحرب العالمية الأولى كالرشاشات والدبابات والمجانيق. كما استعمل الطيران لأخذ الصور والتعرف على المناطق ثم لقنبلة المراكز والمخادع المحصنة والأسواق.

واتبعت قوات الغزو الفرنسي طريقة «الأرض المحروقة» عند مهاجمتها للبوادي الثائرة، فكانت تحرق القرى وتقتل الرجال والأطفال وتسبي النساء وتختطف المواشي والمحصولات الزراعية.

وكان الجيش الفرنسي في المغرب يتألف من قوات نظامية وأخرى إضافية ثم من قوات التحرك. فالنظامية تتركب من وحدات من الجنود الأجانب عن المغرب من بين الأفارقة الزنوج ومن أبناء بقية بلدان افريقيا الشمالية. ويتولى قيادة هذه الوحدات ضباط فرنسيون.

وجدت القوات الإضافية من بين المغاربة من أبناء البوادي على الخصوص. وتشكلت منهم فرق «الكوم» و «المخازنية»، وأسندت قياداتها إلى ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين.

وكان يدفع بالقوات المغربية الأصل نحو المواجهات المباشرة حتى تسهل مهمة الجيش النظامي، فتعرض أعداد كبيرة منها للقتل والجرح، ثم تهاجم القوات النظامية بعد ذلك المنطقة المعينة وتحتلها.

أما قوات التحرك فتشكلت من عناصر منتقاة من مختلف الوحدات السابقة، ومن مختلف أنواع الأسلحة. وكانت أقوى الفرق وأكثرها عنفا في المواجهات ولاتستعمل إلا عند الاقتضاء.

واستعملت السلطات الاستعمارية، في هذا الغزو وغيره، علاوة على الوسائل المادية والعسكرية، الدهاء السياسي، فكانت تستعين بكبار القواد والباشوات أمثال الكلاوي والمتوكي والكندافي، مطبقة بذلك «سياسة الاعتماد على الأعيان» التي تعطي للعناصر الموالية للمستعمر من أبناء البلاد دورا مهما في تركيز الجهاز الاستعماري.


مراكش: استقبال القايد الكلاوي وأخوه للجنرال ليوطي

وكانت تحاصر المدن والقبائل الثائرة، فتقطع إمكانيات الإتصال بينها، وتقوم بحصار اقتصادي لها. وتضرب قبيلة بأخرى مستغلة مختلف المعلومات والتقارير التي سبق أن حضرها ضباط ومبعوثو المخابرات الأروبية. وكانت تلك التقارير قد جعلت سلطات الاحتلال على إطلاع تام بالأوضاع الداخلية للبلاد؛ وبشكل أدق بالقوى المحلية التي كانت تقتسم النفوذ السياسي والديني في مختلف مناطق المغرب.

فلم تكلف القوات الفرنسية نفسها عناء الدخول في معارك ومواجهات حادة، ولا تخصیص مصاريف كبيرة للغزو، فسميت خطتها هذه ب «سياسة بقعة الزيت» Tache d’huile.

مراحل الغزو العسكري للمغرب

تم تعيين الجنرال ليوطي (1925-1912) كمقيم عام لفرنسا وكقائد عام للجيش الفرنسي بالمغرب. وكان ليوطي قد اكتسب تجربة كبيرة في حروب الغزو الاستعماري : فقد شارك في احتلال الهند-الصينية وفي غزو جزيرة مدغشقر. وتولى منذ 1903 قيادة الجيش الفرنسي المحتل للحدود الجزائرية المغربية بالصحراء.

المرحلة الأولى: اتجه الغزو العسكري نحو السهول الخصبة

وما بين 1912 و 1914 هاجم الجيش الفرنسي، بقيادة الجنرال ليوطي السهول المغربية الخصبة، إنطلاقا من أراضي الشاوية ومن المغرب الشرقي والتي تم احتلالها منذ 1907. فتمكنت القوات الغازية بذلك من ربط مناطق نفوذها وطرق مواصلاتها بين القسمين الغربي والشرقي من المغرب والإتصال بالجزائر.

المرحلة الثانية: استهدفت العمليات العسكرية إخضاع القبائل الجبلية الثائرة والمناطق الصحراوية

ما بين 1914 و 1920 اتجهت قوات الاحتلال الفرنسي للسيطرة على الأطلس المتوسط. ولم تتمكن منه إلا سنة 1934، بعد سلسلة من مقاومات القبائل، وأبرزها مقاومة قبائل زیان بقيادة موحا أوحمو الزياني.

وما بين 1921 و 1926، اتجهت كل اهتمامات قوات الاحتلالين الفرنسي والاسباني نحو جبال الريف، حيث قامت مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي. ولم تتم لها السيطرة على الجبال الريفية، إلا بعد حروب طويلة وتحالف القوتين الاستعماريتين وتجنيد جيوش ضخمة وحشد عتاد كبير ضد المقاومة الريفية.

ثم توجهت قوات الاحتلال الفرنسي نحو إخضاع الجنوب المغربي والواحات. فتم احتلال تافيلالت، بعد أن استهدفت جل واحاتها للقصف الجوي والمدفعي. ثم تغلغلت القوات الفرنسية داخل الاطلس الكبير الأوسط والشرقي وجبل صاغرو والأطلس الصغير، ثم في اتجاه الجنوب، فواجهتها مقاومة أسرة ماء العينين، ومقاومات أخرى متعددة لقبائل الأطلس الكبير والصحراء إلى نهاية 1934.

المقاومة المسلحة

كانت المقاومة الريفية أعنف مقاومة مسلحة وأكثرها تنظيما

تزعمت أسرة الخطابي مقاومة قبائل الريفية للغزو الإسباني

كان محمد بن عبد الكريم الخطابي (1882-1962) قد تلقى دراسته الفقهية بالقرويين بفاس لمدة ثلاث سنوات، فتأثر بالفكر السلفي السائد وقتئذ، والذي يدعو إلى العودة إلى أصول الدين ومحاربة الإستعمار الأروبي. ثم عين سنة 1915 نائبا لقاضي القضاة بمدينة مليلية ثم قاضيا بها. وباستمرار اسبانيا في غزو المناطق الريفية تخلي محمد بن عبد الكريم عن منصبه بمليلية والتحق ب «أجدير» موطنه الأصلي – للاستعداد لخوض حرب تحریرية.

عند بداية القرن العشرين، كان المجتمع القبلي الريفي يتألف من أسر تجتمع في فخدات ثم في قبائل ثم في مجموعة قبائل تنتسب كل منها إلى نفس الأصل. ومن أهم مجموعات قبائل المنطقة : «الروافة» و «صنهاجة السراير» و «غمارة» ثم «جبالة». وشملت مجموعة «الروافة» قبيلة بني ورياغل، التي تنتسب إليها أسرة الخطابي، والتي ضمت حوالي 39.000 نسمة عند قيام المقاومة.

وترجع أولى المعارك التي خاضتها المقاومة الريفية إلى ماي 1921 حيث انتصرت على القوات الاسبانية عند «ابران» وهو أحد المراكز الاستراتيجية التي أنشأها الاسبان بالريف. كما تم تحطيم حصن «احربين» وقضي على الحامية الاسبانية الموجودة به.

فوجهت اسبانيا 60.000 من جنودها بقيادة الجنرال سلفستر. وتوغلت هذه القوات داخل الريف الأوسط. فباغتها المقاومون الريفيون الذين لم يكن عددهم يزيد عن 3.000 جندي، وسحقوها في هضبة «أنوال» وذلك في يوليوز 1921، وتابعوا الفارين منهم حتى ضواحي مدينة مليلية.

وغنمت القوات الريفية في معركة «أنوال» : 300 مدفع وطائرتين وأسلحة أوتوماتيكية و 20.000 بندقية و 400 رشاشة وكمية كبيرة من الرصاص ومجموعة من السيارات وعدة الجيش والأدوية. وكانت حصيلة القتلى من الاسبان 16.000 قتيل وأسرث نسبة كبيرة من باقي الجنود.

وتم تحرير كل البوادي الريفية، ولم تبق بين يدي الاسبان سوی الثغور المحتلة سابقا.

نظمت المقاومة الريفية نفسها وفق واقع المجتمع الريفي وظروف الحرب التحريرية

منذ 1921، تشكلت الجمعية الوطنية من 80 عضوا منتخبا يمثلون الفخدات والقبائل، ولها سلطات تشريعية وتنفيذية، مقرها با «أجدير» ويرأسها محمد بن عبد الكريم. وحيث إن المنطقة تعيش حالة حرب، فقد فوضت له الجمعية الوطنية السهر على حماية الأمن العام وتسيير الحرب التحريرية. كما تأسست حكومة إلى جانبه تتولى تنفيذ قرارات الجمعية الوطنية.

وعلى المستوى المحلي، كانت القبيلة هي الوحدة الاقليمية الرئيسية، وبلغ مجموعها 18 وحدة تابعة ومرتبطة بالادارة المركزية الداخلية. وعلى رأس كل قبيلة «الجماعة» ثم «قائد» يتبع له عدة «شيوخ»، ويضم القائد كل السلط وينوب عن «الجماعة». فهو رئيس القبيلة وقائدها العسكري وجابي ضرائبها وقاضيها الشرعي. وللشيوخ نفس السلط ونفس الدور كل في دائرة نفوذه.

وكان محمد بن عبد الكريم يجتمع بأجدير بمختلف القواد المحليين مرة كل شهر، لتتبع الأحداث المحلية عن كثب، وللتنسيق بين مختلف النواحي.

واعتمد بیت المال، أساسا، على الضرائب الشرعية التي تدفعها القبائل، وعلى الأموال التي يقدمها الإسبان لافتداء أسراهم. فمثلا عَوَّضت اسبانيا عن جزء من أسراها في معركة أنوال بما قدره 4.137.000 بسيطة.

ويتم تجنيد كل الذكور المتراوحة أعمارهم ما بين 16 إلى 50 سنة، وذلك بأن يؤخذ نصف هؤلاء الذكور من القبيلة لمدة أسبوعين، ثم يعودون إلى قبيلتهم ويعوضهم النصف الاخر. وبذلك، وبالتناوب، كان نصف أولئك الرجال يستمر في عمله، بينما يقاتل النصف الاخر المستعمر. ويتلقى المجندون تداريب محلية في رباطات، ثم يشكلون وحدات عسكرية وزعت إلى قائد المائة ثم الخمسين ثم الخمسة والعشرين ثم إلى فرق تضم 12 رجلا. ويتوفر كل مجند على سلاح (بندقية أو رشاشة) .. وعلى كمية من الرصاص، ويتلقی مؤونته اليومية.

ولا تتحرك الوحدات المجندة على شكل جماعات من منطقة إلى أخرى، بل على كل مجند الالتحاق بمفرده بالمركز المطلوب وبمعزل عن الآخرين احتياطا من غارات العدو، ووفق حرب العصابات التي عملت بها المقاومة الريفية.

وإلى جانب المجندين، تركب الجيش النظامي من 150 من الحرس الخاص بالأمير، ومن 2.000 من المشاة ثم من 300 من الضباط وجنود المدفعية. ويتقاضى الجندي النظامي العادي بسيطتين في اليوم ورغيفا من الخبز. وبلغ مجموع المجندين 75.000 رجل، من بينهم 20.000 إلى 30.000 دائمون.

وكان الأطفال والنساء والشيوخ يساعدون المقاتلين في القيام بوظائف الحرس في الداخل وعلى الحدود مثلا؛ بل إن كثيرا من النساء اشتركن في المواجهات العسكرية، وفي تضميد الجراح إلى غير ذلك من الأعمال الاجتماعية …

وكانت أهم أسلحة المقاومين غنيمة من العدو في المعارك. ففي يونيو 1925، غنم الريفيون من الجيش الفرنسي 5.000 بندقية و 200 رشاشة و 35 منجنیقا و 60.000 قنبلة.. كما تمكن بعض سكان الريف من صنع قنابل مسيلة للدموع من الرماد والفلفل ليرد بها المقاومون على قنابل الغاز التي يستعملها العدو. كما اهتدى الريفيون إلى صنع قنابل من علب المصبَّرات محشوة بمواد متفجرة…


إمارة محمد بن عبد الكريم الخطابي شمال المغرب

وعلى العموم كانت هذه التنظيمات جميعها تستجيب لظروف الحرب التي تخوضها المقاومة الريفية، فنشأت إمارة ذات حكم مركزي وإدارة محلية فوق مساحة 20.000 کیلومتر مربع، بلغ عدد سكانها حوالي 500.000 نسمة.

تحالف كبار الملاك وشيوخ الزوايا مع سلطات الاحتلال، من أجل إجهاض الإصلاحات وتوقيف مد المقاومة الريفية.

طبقت المقاومة عدة إصلاحات أولية على واقع القبائل التابعة لها، منها مثلا إلغاء الرق الذي كانت بعض معالمه متبقية لدى قبائل «صنهاجة السراير». كما عملت على تطبيق أحكام الشرع الاسلامي عوض العرف، خاصة فيما يخص جباية الضرائب وفي العادات الاجتماعية. وتمت محاربة الزوايا الدرقاوية والوزانية والخمليشية والادريسية والبقالية، والحد من تأثيرها لدى سكان القبائل، خاصة بعد أن ثبت أن بعضها يتعاون مع سلطات الحماية.

كما أن للفكر السلفي الذي تبناه محمد بن عبد الكريم تأثيرا في نبذ الوساطة بين الخالق والمخلوق من أمثال الطرقية، فتحولت الزكاة التي كانت بعض القبائل تدفعها للزوايا، إلى بيت مال المقاومة الريفية، ولم تعد الزوايا تتلقى الزيارات والهدايا والهبات..

وفي سنة 1924، قامت قبيلة الأخصاص المستقرة بمنطقة الشاون بانتفاضة ضد إصلاحات محمد بن عبد الكريم وسلطته. وحملت السلاح متحالفة مع الريسوني، فتم توقيف التمرد ببعث جيش من قبيلة بني ورياغل. ثم توجه الجيش الريفي نحو الشمال الغربي حيث منطقة نفوذ الريسوني. وكان الريسوني قد وَقَّعَ، سنة 1923 اتفاقا مع الإسبان على محاربة المقاومة الريفية، إلا أنه انهزم وسجن إلى أن مات، وتشتت أتباعه.

وفي شتنبر 1925، انتفض ضد المقاومة المذبوح قائد قبيلة التسول باتفاق وتنسيق مع سلطات الحماية الفرنسية، وتحالف معه قواد آخرون أهمهم أومحاند قائد بَرَّاد وعمار بن حميدو قائد مرنيسة والبشير قائد البرانس. ودعمتهم سلطات الحماية بقوات من «الكوم». إلا أن المقاومة الريفية تمكنت من تصفيتهم، ومن ضم مناطق نفوذهم وإدماج سكانها في صف الحركة التحريرية.

وبعد أن عجز الإسبان عن مواجهة المقاومة الريفية بمفردهم تحالفوا مع الفرنسيين. وقد سهل إقامة هذا التحالف، قلق الفرنسيين من تطور الأحداث في الشمال ومدى تأثيرها على بقية المغرب. لذلك وفي 1924، توغلت الجيوش الفرنسية في ناحية وادي ورغة، الذي يعد مصدر الحبوب بالنسبة لمنطقة الريف الأوسط. وبذلك حكمت على سكان المنطقة بالجوع.

فقررت المقاومة الريفية العدول عن سياسة مهادنة فرنسا، وواجهت تكتل القوتين الفرنسية والاسبانية. ومقابل 20.000 من المقاومين الريفيين، حشدت قوات الاحتلال من الجانب الاسباني : 100.000 من المجندين من بينهم 40.000 جندي نظامي ومن الجانب الفرنسي : 325.000 من الجنود النظاميين و 400.000 من القوات المساعدة. وبذلك تشكلت 32 وحدة عسكرية وعشرات الالاف من القوات المساعدة و 44 فرقة يسيرها 60 جنرالا برئاسة المارشال “بیتان”، يعزز ذلك سرب من الطائرات وأعداد كبيرة من المدفعية وقوات البحرية.

وبدأ الهجوم الموحد (الفرنسي الاسباني) على الريف في شتنبر 1925، فقام الأسبان بإنزال جيوشهم في خليج الحسيمة، واستولوا على أجدير، في الوقت الذي زحفت فيه الجيوش الفرنسية على جنوب الريف.

فارتأى محمد بن عبد الكريم في 26 ماي 1926 تسليم نفسه للقوات الفرنسية حقنا للدماء. إلا أن الطائرات استمرت في قنبلة القرى الريفية. فتوجه عبد الكريم بالحديث للضباط الفرنسيين الذين سلم إليهم نفسه قائلا:

سيكون من المدهش أن تصيب طائراتكم الرجال في هذه المرة، فعادة مالا تصيب بالقتل سوى النساء. إن حضارتكم حضارة نيران. فأنتم تملكون القنابل الكبيرة وبالتالي فأنتم متحضرون. أما أنا فليس لدي سوى رصاصات بنادق، وإذن فأنا متوحش.

من مذكرات محمد بن عبد الكريم الخطابي.

وتمَّ نفي عبد الكريم إلى جزيرة «لارينيون» الواقعة في الجنوب الشرقي من جزيرة مدغشقر. وبعد قضائه 20 سنة في ذلك المنفى تقرر نقله سنة 1947 إلى فرنسا. لكنه تمكن من الافلات من قبضة المستعمرين، أثناء عبوره قناة السويس. وبقي لاجئا بمصر إلى وفاته في 6 فبراير 1962 وبها دفن.

شملت باقي البلاد المغربية مقاومات أخرى، لم تتمكن سلطات الحماية من إخمادها إلا بعد ربع قرن من بدء الحماية

مقاومات الأطلسين المتوسط والكبير:

برزت مقاومة بالأطلس المتوسط شارك فيها الفلاحون والرعاة، وكانت أهمها تلك التي قادها موحا أوحمو الزياني (1920-1869) قائد مدينة خنيفرة، وعلي أمهاوش شيخ الزاوية الدرقاوية، وموحا أوسعيد قائد مدينة القصيبة. وتأخذ من تاريخ هذه المقاومة مثالين بارزين.

فقد واجه القائد موحا أوسعيد على رأس القبائل التابعة له، الهجوم الاستعماري على منطقة القصيبة. فبدأ بجمع فصائل مسلحة ومهاجمة معسكر قصبة تادلا التابع للجيش الفرنسي منذ 1913. فهاجم الجنرال مانجان قائد القوات الفرنسية في المنطقة مدينة القصيبة ب 5.200 جندي يقودهم 130 ضابط. فتمكن المقاومون من محاصرتهم بعد أن توغلوا داخل الجبال. فخسرت قوات الاحتلال 150 جنديا قتيلا و 170 جريحا وعددا من الخيول والأسلحة. وانتقم الجنرال مانجان لانهزامه، فأعطى أوامره بقنبلة القصيبة وحرقها، وأطلق أيدي جنوده لنهب أمتعتها.

والتحق موحا أوسعيد بالجبال برفقة بقية المقاومين، واستمر في مهاجمة مراكز الاحتلال الفرنسي. وتحالف مع مقاومة موحا أوحمو الزياني قائد مدينة خنيفرة.

وفي يونيو 1914، هاجمت ثلاثة فيالق عسكرية فرنسية بقيادة الجنرال هنريس مدينة خنيفرة. وكانت تلك القوات تضم 13.360 جنديا و 338 ضابطا. إلا أنها وجدت المدينة فارغة من سكانها، لكون موحا أوحمو -قائد المدينة- قد ارتأى التخلي عنها والاعتصام بالجبال المجاورة.

وتمكن موحا أوحمو من جمع حوالي 4.000 من المقاومين من القبائل التابعة له. ثم هاجم في غشت 1914 القوات الفرنسية المرابطة حول خنيفرة. وتحالف مع زاوية علي أمهاوش ومع موحا أوسعيد قائد القصيبة. فتحقق بذلك تضامن بين قبائل زیان (موحا أوحمو) وآیت ایسری (موحا اوسعيد) وآیت شخمان (علي امهاوش).

وفي نونبر 1914، وقعت «معركة الهري» بالقرب من خنيفرة، شاركت فيها قوات من مختلف القبائل المتحالفة. وقدرت خسائر القوات الفرنسية بـ 33 قتيلا من الضباط و 580 قتيلا من الجنود و 176 جريحا. وغنم المقاومون 8 مدافع كبيرة و 10 مدافع رشاشة وعددا كبيرا من البنادق. ثم ألحق موحا اوحمو انتصاره في «الهري» بهجومات على مراکز خنيفرة وأكلموس … ولم يتمكن الفرنسيون من السيطرة على الموقف من جديد إلا بعد تلقيهم إمدادات قوية، فالتحقت قوات القبائل بالجبال.

وأمام استمرار المقاومة، كانت القوات الفرنسية تقنبل بالطائرات والمدفعية، القرى والمداشر والمراكز المحصنة التي يلجأ إليها المقاومون.

ومع ذلك فقد صمد موحا اوحمو أمام القوات الفرنسية إلى سنة 1920، حيث استشهد والسلاح بين يديه. وتحدث الجنرال كيوم أحد القادة العسكريين الذين شاركوا في الحملة على الأطلس المتوسط، عن صمود قبائل هذه الجبال قائلا:

«لم تتقدم أية قبيلة نحونا بكيفية تلقائية، كما لم تستسلم أي منها بدون محاربة. بل إن بعض القبائل لم تستسلم إلا بعد أن استزفت وسائل المقاومة عن آخرها»

مترجم عن : الجنرال كيوم «البربر المغاربة وتهدئة الأطلس الأوسط (1912 – 1933)» – نشر روني جوليار، باريس، 1946.

واستمرت مقاومة الأطلس المتوسط على يد أبناء علي امهاوش وعلى يد سيدي المكي و محمد بن الطيبي وأخيه عبد المالك و أمحاند أو الحاج وغيرهم. فقامت مثلا معركة آيت يعقوب في يونيو 1929، خسرت فيها القوات الفرنسية أكثر من 400 قتيل.

وكانت فصائل المقاومين تتحرك باستمرار بدون أن يراها العدو، وتختار وقت ومكان الهجوم ثم تنسحب. ولم يتم توقيف آخر معاقل المقاومة بالأطلس المتوسط إلا سنة 1934.

وفي نفس الوقت، ومنذ 1930، غزت الأطلس الكبير الأوسط قوات الكلاوي بقيادة ضباط فرنسيين. وقامت القوات الغازية بقضم أطراف المنطقة قبيلة بمعزل عن الأخرى لتلافي تكتل القبائل.

وهكذا تم احتلال واحات كل من غريس وفركلة والنيف وتزارین وتودغا ودادس ودرعة ..الخ شيئا فشيئا منذ 1930. فواجهت هذا الاحتلال مقاومة مسلحة عنيفة من طرف القبائل، خاصة في منطقة صاغرو، حيث تكتلت قبائل آیت عطا، واعتصم مقاوموها بالجبال. هناك كانوا يهاجمون الخطوط الأمامية لقوات الاحتلال ويكبدونها خسارات كبيرة. وساعدت طبيعة المنطقة ومعرفة المقاومين بظروفها، على تحقيق عدة عمليات بنجاح. وبرز من بين المقاومين زايد أواحمد بتودغا و عسو أوبستلام بصاغرو.

وجندت قوات الاحتلال 44 طائرة مقاتلة وعدة مدافع بعيدة المدى وحوالي 50.000 من الجنود والمرتزقة من بينهم 10.000 من المغاربة. وحاولت لعدة مرات اقتحام جبال صاغرو وتطويق مقاومي آیت عطا، إلا أنها كانت تواجه بمقاومة عنيفة ومباغثة وغير منتظرة، وكانت حصيلة القتلى من جانب قوات الاحتلال في المنطقة خلال الثلاث سنوات ما بين (1930 و 1933) هي 10 ضباط من بينهم الضابط بورنازيل و 3.500 من الجنود من بينهم 600 مغاربة.

تكتلت قبائل الجنوب والصحراء حول أبناء الشيخ ماء العينين لمقاومة التوسع الاستعماري

بوفاة الشيخ ماء العينين في ظرف توقيع عقد الحماية وتوسع النفوذ العسكري الاستعماري في المغرب، بايعت القبائل الصحراوية أحمد الهيبة (1919-1877م) ليقوم «بالجهاد» ضد المحتلين. ومنذ غشت 1912، خضع لسلطته كل إقليم سوس وأجزاء من وادي النون ووادي درعة من الصحراء إلى الحدود الموريطانية الحالية.


أحمد الهيبة وقواته يدخلون مدينة مراكش

وجمع أحمد الهيبة فرقا عسكرية من الخيالة من القبائل الجنوبية، واتجه نحو مراکش في يوليوز 1912. والتحقت به في كل مرحلة من طريقه أعداد جديدة من جنود القبائل التي يمر بها وجموع من العلماء والطلبة و «الفقراء» …

وحاول كبار قواد الأطلس الكبير كالمتوكي والكلاوي والكندافي بفعل تعاملهم مع الفرنسيين، منع زحف أحمد الهيبة نحو الشمال، إلا أنهم تراجعوا عن ذلك أمام المساندة الكبيرة التي وجدها الهيبة لدى مختلف القبائل.

وتقدمت قوات الهيبة المؤلفة من 5.000 رجل، والمنظمة على طريقة الحرب النظامية التقليدية، شمال مراكش لمواجهة القوات الفرنسية، فانهزمت في معركة سيدي بوعثمان في 7 شتنبر 1912. وتعود أهم أسباب هذا الانهزام إلى خيانة كبار قواد الجنوب للحركة، واللذين تحالفوا مع القوات الفرنسية، في الوقت الذي كانوا يبدون فيه الولاء للهيبة. فاحتلت القوات الفرنسية مدينة مراكش التي غادرها الهيبة ومن معه من السوسيين والصحراويين.

كما تكمن بعض أسباب الفشل في كون حركة الهيبة، لم تستطع تبني محاولات القبائل للقيام بـ «الجهاد» ضد الغزو الأجنبي وضد بطش القواد المهيمنين على المنطقة.

ومنذ الانهزام في «معركة بو عثمان»، تحولت الحركة من الخطة الهجومية إلى خطة دفاعية عن منطقتي سوس والصحراء. وتعقبت قوات الاحتلال جموع الهيبة واستندت بالأساس على القواد المتحالفين معها.

« … فأوعزت الحكومة (يعني سلطات الحماية إلى جميع القواد الكبار من مراكش إلى الجنوب : الأجلاويين والمتوكيين والكنتافيين والحاحيين والراسَلْواديين، أن يكونوا جميعا على أهبة الزحف، كل واحد يقود رجاله. ومن وراء ذلك فيالق تبلغ عشرين ألفا من الجند المنظم الحكومي تحت رئاسة الجنرال (لاموط).. فقامت قيامة رجال قبائل الهيبة .. فكان ذلك سبب أن صحت منهم النيات فتصلبوا، فائتلفت قلوبهم، وانتفت الأحقاد من بينهم… وفي 22 من جمادى الأولى و 1335هـ (1916م) نزل هذا الجيش العظيم في تزنيت … وفي مفتتح جمادی الثانية، زحف الجيش إلى (وجان)، فصار يرسل على من فيه القذائف المتابعة كالرعود القاصفة .. حتى تحسب المدفعية أن الطريق مفتوح، فتتقدم الفيالق حتى تكثب المختبئين فيرسلون عليها شواضا من الرصاص، فيسقط من الصفوف مايسقط ثم يرجع الباقون … »

محمد المختار السوسي – المعسول – ج 4 ، ص 206

وبعد وفاة أحمد الهيبة سنة 1919، خلفه على رأس الحركة أخوه مربيه ربه الذي استمر في مقاومة الاحتلالين الفرنسي والاسباني ومن يساعدهما من كبار القواد، وذلك حتى سنة 1934. ولم يتغلب الاسبان على مقاومة قبائل سيدي إفني والساقية الحمراء ووادي الذهب إلا سنة 1934، بفعل الصمود الطويل للقبائل واستمرار أسرة ماء العينين في المقاومة.

وهكذا، إذا كانت المقاومة المسلحة في البوادي قد أجبرت على التوقف؛ فإن مقاومة جديدة قد انطلقت من المدن، لتمثل حلقة أخرى من حلقات المقاومة المغربية ضد السلطات الإستعمارية، تلك السلطات التي قامت بتقسيم البلاد إلى مناطق للنفوذ الفعلي، والتي كانت قد اتجهت نحو الإستغلال الاقتصادي المكثف للأراضي المغربية.

Ayoub AddaQ

" قد يعيش الإنسانُ عمره بين بحارِ الكتب وعوالم المعرفة ويصل أحيانًا إلى الشك . "

إرسال تعليق

شكرا لك 🌙💜

أحدث أقدم